فصل: فصل ثبوت إعسار المديون

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روضة الطالبين وعمدة المفتين **


 كتاب التفليس

التفليس في اللغة النداء على المفلس وشهره بصفة الإفلاس‏.‏

وأما في الشرع فقال الأئمة المفلس من عليه ديون لا يفي بها ماله‏.‏

ومثل هذا الشخص يحجر عليه القاضي بالشرائط التي سنذكرها إن شاء الله تعالى وإذا حجر عليه ثبت حكمان أحدهما تعلق الدين بماله حتى لا ينفذ تصرفه فيه بما يضر بالغرماء ولا تزاحمها الديون الحادثة كما سيأتي إن شاء الله تعالى والثاني أن من وجد عند المفلس عين ماله كان أحق به من غيره فلو مات مفلساً قبل الحجر عليه تعلقت الديون بتركته كما سبق في الرهن ولا فرق في ذلك بين المفلس وغيره ولكن يثبت الحكم الثاني ويكون موته مفلساً كالحجر عليه ولو كان مال الميت وافيا بديونه فالصحيح أنه لا يرجع في عين المبيع كما في حال الحياة لتيسر الثمن وقال الأصطخري يرجع‏.‏

واعلم أن التعلق المانع من التصرف يفتقر إلى حجر القاضي عليه قطعاً وكذا الرجوع إلى عين المبيع هذا هو الذي يدل عليه كلام الأصحاب تعريضاً و تصريحاً وقد يشعر بعض كلامهم بالاستغناء فيه عن حجر القاضي ولكن المعتمد الأول‏.‏

 فصل الحجر على المفلس

بالتماس الغرماء يحجر القاضي على المفلس بالتماس الغرماء الحجر عليه بالديون الحالة الزائدة على قدر ماله فهذه قيود‏.‏

الأول الإلتماس فلا بد منه فليس للقاضي الحجر بغير التماس لأن الحق لهم فلو كانت الديون لمجانين أو صبيان أو محجور عليه بسفه حجر لمصلحتهم بلا التماس ولا يحجر لدين الغائبين لأنه لا يستوفي مالهم في الذمم إنما يحفظ أعيان أموالهم‏.‏

قلت وإذا وجد الإلتماس مع باقي الشروط المجوزة للحجر وجب على الحاكم الحجر صرح به أصحابنا كالقاضي أبي الطيب وأصحاب الحاوي و الشامل و البسيط وآخرين وإنما نبهت عليه لأن عبارة كثيرين من أصحابنا فللقاضي الحجر وليس مرادهم أنه مخير فيه والله أعلم‏.‏

القيد الثاني كون الإلتماس من الغرماء فلو التمس بعضهم ودينه قدر يجوز الحجر به حجر وإلا فلا على الأصح وإذا حجر لا يختص أثره بالملتمس بل يعمهم كلهم‏.‏

قلت أطلق أبو الطيب وأصحاب الحاوي والتتمة و التهذيب أنه إذا عجز ماله عن ديونه فطلب الحجر بعض الغرماء حجر ولم يعتبروا قدر دين الطالب وهذا قوي والله أعلم‏.‏

ولو لم يلتمس أحد عنهم والتمسه المفلس حجر على الأصح لأن له غرضاً‏.‏

القيد الثالث‏:‏ كون الدين حالاً فلا حجر بالمؤجل وإن لم يف المال به لأنه لا مطالبة في الحال فإن كان بعضه حالاً فإن كان قدراً يجوز الحجر له حجر وإلا فلا‏.‏

لا يحل ما عليه من الدين المؤجل لأن الأجل حق مقصود له فلا يفوت وفي قول يحل كالموت فعلى هذا القول لو لم يكن عليه إلا مؤجل هل يحجر عليه وجهان الصحيح لا ولو جن وعليه مؤجل حل على المشهور فإن قلنا بالحلول قسم المال بين أصحاب هذه الديون وأصحاب الحالة من الإبتداء كما لو مات وإن كان في المؤجل ثمن متاع موجود عند المفلس فلبائعه الرجوع إلى عينه كما لو كان حالا في الإبتداء وفي وجه أن فائدة الحلول أن لا يتعلق بذلك المتاع حق غير بائعه فيحفظه إلى مضي المدة فإن وجد وفاء فذاك وإلا فحينئذ ينفسخ وقيل لا فسخ حينئذ أيضاً بل لو باع بمؤجل وحل الأجل ثم أفلس المشتري وحجر عليه فليس للبائع الفسخ والرجوع والأول أصح وإن قلنا بعدم الحلول بيع ماله وقسم على أصحاب الحال ولا يدخر لأصحاب المؤجل شيء ولا يدام الحجر عليه بعد القسمة لأصحاب المؤجل كما لا يحجر به إبتداء وهل تدخل في البيع الأمتعة المشتراة بمؤجل وجهان‏:‏ أصحهما نعم كسائر أمواله وليس لبائعها تعلق بها لأنه لا مطالبة في الحال على هذا فإن لم يتفق بيعها وقسمتها حتى حل الأجل ففي جواز الفسخ الآن وجهان قلت أصحهما الجواز قاله في الوجيز والله أعلم‏.‏

والوجه الثاني لاتباع فإنها كالمرهونة بحقوق بائعها بل توقف إلى إنقضاء الأجل فإن انقضى والحجر باق ثبت حق الفسخ وإن فك فكذلك ولا حاجة إلى إعادة الحجر على الصحيح بل القيد الرابع كون الديون زائدة على أمواله فلو كانت مساوية والرجل كسوب ينفق من كسبه فلا حجر وإن ظهرت أمارات الإفلاس بأن لم يكن كسوبا وكان ينفق من ماله أو لم يف كسبه بنفقته فوجهان أصحهما عند العراقيين لا حجر واختار الإمام الحجر ويجري الوجهان فيما إذا كانت الديون أقل وكانت بحيث يغلب على الظن مصيرها إلى النقص أو المساواة لكثرة النفقة وهذه الصورة أولى بالمنع وإذا حجر عليه في صورة المساواة فهل لمن وجد عين ماله الرجوع وجهان أحدهما نعم لإطلاق الحديث والثاني لا لتمكنه من إستيفاء الثمن بكماله‏.‏

وهل تدخل هذه الأعيان في حساب أمواله وأثمانها في حساب ديونه وجهان أصحهما الإدخال‏.‏

 فصل وإذا حجر عليه استحب للحاكم أن يشهد عليه

ليحذر الناس معاملته وإذا حجر امتنع منه كل تصرف مبتدء يصادف المال الموجود عند الحجر فهذه قيود الأول كون التصرف مصادفاً للمال والتصرف ضربان إنشاء وإقرار الأول الإنشاء وهو قسمان أحدهما يصادف المال وينقسم إلى تحصيل كالإحتطاب والإتهاب وقبول الوصية ولا منع منه قطعا لأنه كامل الحال وغرض الحجر منعه مما يضر الغرماء وإلى تفويت فينظر إن تعلق بما بعد الموت وهو التدبير والوصية صح فإن فضل المال نفذ وإلا فلا وإن كان غير ذلك فأما أن يكون مورده عين مال وإما في الذمة فهما نوعان الأول كالبيع والهبة والرهن والإعتاق والكتابة وفيها قولان أحدهما أنها موقوفة إن فضل ما يصرف فيه عن الدين لإرتفاع القيمة أو إبراء نفذناه وإلا فتبين أنه كان لغواً وأظهرهما لا يصح شيء منها لتعلق حق الغرماء بالأعيان كالرهن ثم اختلف في محل القولين فقيل هما فيما إذا اقتصر الحاكم على الحجر ولم يجعل ماله لغرمائه حيث وجدوه فإن جعل ذلك لم ينفذ تصرفه قطعا واحتج هؤلاء بقول الشافعي رضي الله عنه إذا جعل ماله لغرمائه فلا زكاة عليه وطردهما آخرون في الحالين وهو الأشهر قال هؤلاء وتجب الزكاة على الأظهر ما دام ملكه باقيا والنص محمول على ما إذا باعه لهم فإن نفذناه بعد الحجر وجب تأخير ما تصرف فيه وقضاء الدين من غيره فلعله يفضل فإن لم يفضل نقصنا من تصرفاته الأضعف فالأضعف والأضعف الرهن والهبة لخلوهما عن العوض ثم البيع ثم الكتابة ثم العتق قال الإمام فلو لم يوجد راغب في أموال المفلس إلا في العبد المعتق فقال الغرماء بيعوه ونجزوا حقنا ففيه إحتمال وغالب الظن أنهم يجابون‏.‏

قلت هذا الذي ذكره من فسخ الأضعف فالأضعف هو الذي قطع به الأصحاب في جميع الطرق وحكاه صاحب المهذب عن الأصحاب ثم قال ويحتمل أن يفسخ الآخر فالآخر كما قلنا في تبرعات المريض إذا عجز عنها الثلث والمختار ما قاله الأصحاب فعلى هذا لو كان وقف وعتق ففي الشامل أن العتق يفسخ ثم الوقف وقال صاحب البيان ينبغي أن يفسخ الوقف أولا لأن العتق له قوة وسراية وهذا أصح ولو تعارض الرهن والهبة فسخ الرهن لأنه لا يملك به العين والله أعلم‏.‏

وهذا الذي ذكرناه في بيعه لغير الغرماء فإن باعهم فسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى‏.‏

النوع الثاني ما يرد على الذمة بأن اشترى في الذمة أو باع طعاما سلما فيصح و يثبت في ذمته وفي قول شاذ لا يصح‏.‏

القسم الثاني ما لا يصادف المال فلا منع منه كالنكاح والطلاق والخلع واستيفاء القصاص والعفو عنه واستلحاق النسب و نفيه باللعان‏.‏

الضرب الثاني الإقرار فإن أقر بدين لزمه قبل الحجر عن معاملة أو إتلاف أو غيرهما لزمه ما أقر به وهل يقبل في حق الغرماء قولان أحدهما لا لئلا يضرهم بالمزاحمة وأظهرهما يقبل كما لو ثبت بالبينة وكإقرار المريض بدين يزحم غرماء الصحة ولعدم التهمة الظاهرة وإن أقر بدين لزمه بعد الحجر فإن قال عن معاملة لم تقبل في حق الغرماء وإن قال عن إتلاف أو جناية فالمذهب أنه كما قبل الحجر وقيل كدين المعاملة بعده وإن أقر بدين ولم ينسبه فقياس المذهب التنزيل على قلت‏:‏ هذا ظاهر إن تعذرت مراجعة المقر فإن أمكنت فينبغي أن يراجع لأنه يقبل إقراره والله أعلم‏.‏

وأما إذا أقر بعين مال لغيره فقال غصبته أو استعرته أو أخذته سوما فقولان كما لو أسند الدين إلى ما قبل الحجر أظهرهما القبول لكن إذا قبلنا ففائدته هناك مزاحمة المقر له الغرماء وهنا تسلم إليه العين وإن لم يقبل فإن فضل سلم إليه وإلا فالغرم في ذمته والفرق بين الإنشاء حيث أبطلناه في الحال قطعا وكذا عند زوال الحجر على الأظهر وبين الإقرار حيث قبلناه في المفلس قطعا وفي الغرماء على الأظهر أن مقصود الحجر منعه التصرف فأبطلناه والإقرار إخبار عن ماض والحجر لا يسلبه العبارة‏.‏

فرع أقر بسرقة توجب القطع قطع وفي رد المسروق القولان والقبول هنا أولى لبعده عن التهمة ولو أقر بما يوجب القصاص فعفا على مال ففي التهذيب أنه كالإقرار بدين الجناية وقطع بعضهم بالقبول لانتقاء التهمة‏.‏

فرع ادعي عليه مال لزمه قبل الحجر فأنكر ونكل فحلف المدعي النكول ورد اليمين كالبينة زاحم وإن قلنا كالإقرار فعلى القولين‏.‏

لقيد الثاني كونه مصادفا للمال الموجود عند الحجر فلو تجدد بعده بإصطياد أو إتهاب أو قبول وصية ففي تعدي الحجر إليه ومنعه التصرف فيه وجهان أصحهما التعدي ولو إشترى في الذمة ففي تصرفه هذان الوجهان وهل للبائع الخيار والتعلق بعين متاعه فيه أوجه أصحها الثالث وهو إثباته للجاهل دون العالم فإن لم نثبته فهل يزاحم الغرماء بالثمن وجهان أصحهما لا لأنه حادث برضى مستحقه والمزاحمة بالدين الحادث ثلاثة أقسام‏.‏

أحدها ما لزم برضى مستحقه‏.‏

فإن كان في مقابلته شيء كثمن المبيع ففيه هذه الوجهان وإلا فلا مزاحمة بلا خلاف بل يصير إلى إنفكاك الحجر‏.‏

الثاني ما لزم بغير رضى المستحق كالجناية والإتلاف فيزاحم به على المذهب وبه قطع العراقيون وقيل وجهان لتعلق حقوق الأولين كما لو جنى وليس له إلا عبد مرهون لا يزاحم المجني عليه المرتهن‏.‏

الثالث ما يتجدد بسبب مؤنة المال كأجرة الكيال والوزان والحمال والمنادي والدلال وكراء البيت الذي فيه المتاع فهذه المؤن تقدم على حقوق الغرماء لأنها لمصلحة الحجر هذا إن لم نجد متبرعاً فإن وجد أو كان في بيت المال سعة لم يصرف مال المفلس إليها‏.‏

قلت لو تجدد دين بعد الحجر وأقر بسابق وقلنا لا مزاحمة بهما فهما سواء وما فضل قسم القيد الثالث كون التصرف مبتدءا فلو إشترى شيئاً قبل الحجر فوجده بعد الحجر معيبا فله رده إن كان في الرد غبطة لأن الحجر لا ينعطف على ماض فإن منع من الرد عيب حادث لزمه الأرش ولم يملك المفلس إسقاطه وإن كانت الغبطة في بقائه لم يملك رده لأنه تفويت بغير عوض ولهذا نص الشافعي رضي الله عنه على أنه لو إشترى في صحته شيئاً ثم مرض ووجده معيباً فأمسكه والغبطة في رده كان القدر الذي نقصه العيب محسوباً من الثلث وكذلك الولي إذا وجد ما إشتراه للطفل معيبا لا يرده إذا كانت الغبطة في بقائه ولا يثبت الأرش في هذه الصورة لأن الرد غير ممتنع في نفسه وإنما المصلحة تقتضي الإمتناع‏.‏

فرع لو تبايعا بشرط الخيار ففلسا أو أحدهما فلكل منهما إجازة البيع ورده بغير رضى الغرماء هكذا نص عليه الشافعي رضي الله عنه‏.‏

وفيه ثلاثة طرق أصحها الأخذ بظاهره فيجوز الفسخ والإجازة على وفق الغبطة وعلى خلافها لأنه إنما يمنع من إبتداء تصرف والثاني تجويزهما بشرط الغبطة كالرد بالعيب والثالث إن وقعا على وفق الغبطة صح وإلا فيبنى على أقوال الملك في زمن الخيار وينظر من أفلس فإن كان المشتري وقلنا الملك للبائع فللمشتري الإجازة والفسخ وإن قلنا للمشتري فله الإجازة لأنها إستدامة ملك ولا فسخ لأنه إزالة وإن أفلس البائع وقلنا الملك له فله الفسخ لأنه إستدامة وليس له الإجازة وإن قلنا للمشتري فللبائع الفسخ والإجازة‏.‏

 فصل من مات وعليه دين

فادعى وارثه دينا له على رجل وأقام شاهدا وحلف معه ثبت الحق وجعل في تركته فإن لم يحلف لم ترد اليمين على الغرماء على الجديد ولو إدعى المحجور عليه بالفلس دينا والتصوير كما ذكرنا لم يحلف الغرماء على المذهب وقيل فيه القولان وحكى الإمام عن شيخه طرد الخلاف في إبتداء الدعوى من الغرماء وعن الأكثرين القطع بمنع الدعوى إبتداء وتخصيص الخلاف باليمين بعد دعوى الوارث في المسألة الأولى والمفلس في الثانية قلت وطرد صاحب التهذيب القولين في الدعوى من غريم الميت إذا تركها وارثه والله أعلم‏.‏

وسواء كان المدعى عيناً أو ديناً قاله ابن كج وفرع على قولنا يحلف الغرماء أنه لو حلف بعضهم فقط إستحق الحالفون بالقسط كما لو حلف بعض الورثة قال ولو حلفوا ثم أبرئوا من ديونهم فهل يكون المحلوف عليه لهم ويبطل الإبراء أم يكون للمفلس أم يسقط عن المدعى عليه فلا يستوفى أصلا فيه ثلاثة أوجه قلت ينبغي أن يكون أصحها كونه للمفلس ويجيء مثله في غرماء الميت وهذا المذكور عن ابن كج في حلف بعضهم قاله آخرون منهم صاحب الحاوي ولو إدعى المفلس على رجل مالا ولم يكن له شاهد ونكل المدعى عليه ثم المفلس ففي حلف الغرماء الخلاف المذكور مع الشاهد قاله القاضي أبو الطيب وصاحب التهذيب ولا يحلف الغريم إلا على قدر دينه والله أعلم‏.‏

 فصل إذا أراد السفر من عليه دين

فإن كان حالاً فلصاحبه منعه حتى يقضي حقه قال أصحابنا وليس هذا منعاً من السفر كما يمنع عبده وزوجته السفر بل يشغله عن السفر برفعه إلى مجلس القاضي ومطالبته حتى يوفي وإن كان مؤجلاً فإن لم يكن السفر مخوفاً فلا منع إذ لا مطالبة وليس له طلب رهن ولا كفيل قطعا ولا يكلفه الإشهاد على الصحيح وسواء كان الأجل قريباً أم بعيدا فإن أراد السفر معه ليطالبه عند حلوله فله ذلك بشرط أن لا يلازمه فإن كان السفر مخوفاً كالجهاد وركوب البحر فلا منع على الأصح مطلقاً وفي وجه يمنع إلى أن يؤدي الحق أو يعطي كفيلاً قاله الاصطخري وفي وجه إن لم يخلف وفاء منعه وفي وجه إن كان المديون من المرتزقة لم يمنع الجهاد وإلا منع واختار الروياني مذهب مالك رضي الله عنه فقال له المطالبة بالكفيل فيالسفر المخوف وفي السفر البعيد عند قرب الحلول‏.‏

 فصل ثبوت إعسار المديون

إذا ثبت إعسار المديون لم يجز حبسه ولا ملازمته بل يمهل أن يوسر وأما الذي له مال وعليه دين فيجب أداؤه إذا طلب فإذا امتنع أمره الحاكم به فإن امتنع باع الحاكم ماله وقسمه بين غرمائه‏.‏

قلت قال القاضي أبو الطيب والأصحاب إذا امتنع فالحاكم بالخيار إن شاء باع ماله عليه بغير إذنه وإن شاء أكرهه على بيعه وعزره بالحبس وغيره حتى يبيعه والله أعلم‏.‏

فإن التمس الغرماء الحجر عليه حجر على الأصح كيلا يتلف ماله فإن أخفى ماله حبسه القاضي حتى يظهره فإن لم ينزجر بالحبس زاد في تعزيره بما يراه من الضرب وغيره إن كان ماله ظاهراً فهل يحبسه لإمتناعه قال في التتمة فيه وجهان الذي عليه عمل القضاة الحبس فإن إدعى أنه تلف وصار مفلساً فعليه البينة ثم إن شهدوا على التلف قبلت شهادتهم ولم تعتبر فيهم الخبرة مطلقاً وإن شهدوا بإعساره قبلت بشرط الخبرة الباطنة قال الصيدلاني ويحمل فرع إذا ادعى المديون أنه معسر أو قسم مال المحجور عليه على وبقي بعض الدين فزعم أنه لا يملك شيئاً آخر وأنكر الغرماء نظر إن لزمه الدين في مقابلة مال بأن إشترى أو إقترض أو باع سلما فهو كما لو إدعى هلاك المال فعليه البينة وإن لزمه لا في مقابلة مال فثلاثة أوجه أصحها يقبل قوله بيمينه والثاني يحتاج إلى البينة والثالث إن لزمه باختياره كالصداق والضمان لم يقبل واحتاج إلى البينة إن لزمه لا بإختياره كإرش الجناية وغرامة المتلف قبل قوله بيمينه لأن الظاهر أنه لا يشغل ذمته بما لا يقدر عليه‏.‏

فرع البينة على الاعسار مسموعة وإن تعلقت بالنفي للحاجه كشهادة أن لا وارث ويشترط في الشهود مع شروط الشهود الخبرة الباطنة كطول الجوار أو المخالطة فإن عرف القاضي أنهم بهذه الصفة فذاك وإلا فله إعتماد قولهم إنا بهذه الصفة قاله في النهاية ويكفي شاهدان كسائر الحقوق وقال الفوراني يشترط ثلاثة وهذا شاذ وفيه حديث في صحيح مسلم وحمله الجمهور على الاستظهار والاحتياط‏.‏

وأما صيغة شهادتهم فأن يقولوا هو معسر لا يملك إلا قوت يومه وثياب بدنه‏.‏

ولو أضافوا إليه وهو ممن تحل له الصدقة جاز ولا يشترط قال في التتمة ولا يقتصرون على أنه لا ملك له حتى لا تتمحض شهادتهم نفيا لفظا ومعنى ويحلف المشهود له مع البينة لجواز أن يكون له مال في الباطن‏.‏

وهل هذا التحليف واجب أم مستحب قولان ويقال وجهان أظهرهما الوجوب وعلى التقديرين هل يتوقف على إستدعاء الخصم وجهان أحدهما لا كما لو ادعي على ميت أو غائب فعلى هذا هو من آداب القضاء وأصحهما نعم كيمين المدعى عليه قال الإمام الخلاف فيما إذا سكت فأما إذا قال لست أطلب يمينه ورضيت بإطلاقه فلا يحلف بلا خلاف‏.‏

فرع حيث قبلنا قوله مع يمينه فيقبل في الحال كالبينة قال الإمام ويحتمل أن يتأنى القاضي ويسأل عن باطن حاله بخلاف البينة وحيث قلنا لا يقبل قوله إلا ببينة فادعى أن الغرماء يعرفون إعساره فله تحليفهم على نفي العلم فإن نكلوا حلف وثبت إعساره وإن حلفوا حبس ومهما إدعى ثانياً وثالثاً أنه بان لهم إعساره فإن له تحليفهم قال في التتمة إلا أن يظهر للقاضي أنه يقصد الإيذاء واللجاج‏.‏

إذا حبسه لا يغفل عنه بالكلية فلو كان غريباً لا يتأتى له إقامة البينة فينبغي أن يوكل به القاضي من يبحث عن وطنه ومنقلبه ويتفحص عن أحواله بحسب الطاقة فإذا غلب على ظنه إعساره شهد به عند القاضي لئلا يتخلد في الحبس ومتى ثبت الإعسار وخلاه الحاكم فعاد الغرماء وادعوا بعد أيام أنه استفاد مالا وأنكر فالقول قوله وعليهم البينة فإن أتوا بشاهدين فقالا رأينا في يده مالا يتصرف فيه أخذه الغرماء فإن قال أخذته من فلان وديعة أو قراضاً وصدقه المقر له فهو له ولا حق فيه للغرماء وهل لهم تحليفه أنه لم يواطىء المقر له وأقر عن تحقيق وجهان أصحهما لا لأنه لو رجع عن إقراره لم يقبل وإن كذبه المقر له صرف إلى الغرماء ولا يلتفت إلى إقراره لآخر وإن كان المقر له غائبا توقف حتى يحضر فإن صدقه أخذه وإلا فيأخذه الغرماء‏.‏

فرع في حبس الوالدين بدين الولد وجهان أصحهما عند الغزالي يحبس وأصحهما في التهذيب وغيره لا يحبس ولا فرق بين دين النفقة وغيره ولا بين الولد الصغير والكبير قلت وإذا حبس المفلس لم يأثم بترك الجمعة إذا كان معسراً قال الصيمري وقيل يلزمه إستئذان الغريم حتى يمنعه فيسقط الحضور والنفقة في الحبس في ماله على المذهب وحكى الصيمري والشاشي وصاحب البيان فيها وجهين ثانيهما أنها على الغريم فإن كان المفلس ذا صنعة مكن من عملها في الحبس على الأصح والثاني يمنع إن علم منه مماطلة بسبب ذلك حكاهما الصيمري والشاشي وصاحب البيان ورأيت في فتاوى الغزالي رحمه الله أنه سئل هل يمنع المحبوس من الجمعة والإستمتاع بزوجته ومحادثة أصدقائه فقال الرأي إلى القاضي في تأكيد الحبس بمنع الإستمتاع ومحادثة الصديق ولا يمنع من الجمعة إلا إذا ظهرت المصلحة في منعه وفي فتاوى صاحب الشامل أنه إذا أراد شم الرياحين في الحبس إن كان محتاجا إليه لمرض ونحوه لم يمنع وإن كان غير محتاج بل يريد الترفه منع وأنه يمنع من الإستمتاع بالزوجة ولا يمنع من دخولها لحاجة كحمل الطعام ونحوه وأن الزوجة إذا حبست في دين إستدانته بغير إذن الزوج فإن ثبت بالبينة لم يسقط نفقتها مدة الحبس لأنه بغير رضاها فأشبه المرض وإن ثبت بالإقرار سقطت هكذا قال والمختار سقوطها في الحالين كما لو وطئت بشبهة فاعتدت فإنها تسقط وإن كانت معذورة قال أصحابنا ولو حبس في حق رجل فجاء آخر وادعى عليه أخرجه الحاكم فسمع الدعوى ثم يرده قال في البيان لو مرض في الحبس ولم يجد من يخدمه فيه أخرج فإن وجد من يخدمه ففي وجوب إخراجه وجهان فإن جن أخرج قطعاً وإذا حبس لحق جماعة لم يكن لواحد إخراجه حتى يجتمعوا على إخراجه ولو حبس لحق غريم ثم إستحق آخر حبسه جعله القاضي محبوساً للإثنين فلا يخرج إلا

 فصل إذا حجر الحاكم على المفلس

استحب أن يبادر ببيع ماله وقسمته لئلا يطول زمن الحجر ولا يفرط في الإستعجال لئلا يباع بثمن بخس ويستحب أن يبيع بحضرة المفلس أو وكيله وكذا يفعل إذا باع المرهون ويستحب أيضاً إحضار الغرماء ويقدم بيع المرهون والجاني ليتعجل حق مستحقيهما فإن فضل عنهما شيء ضم إلى سائر الأموال وإن بقي من دين المرتهن شيء ضارب به‏.‏

قلت ويقدم أيضاً المال الذي تعلق به حق عامل القراض ويقدم بالربح المشروط صرح به الجرجاني وهو ظاهر والله أعلم‏.‏

ويبيع أولا ما يخاف فساده ثم الحيوان ثم سائر المنقولات ثم العقار ويباع كل شيء في سوقه‏.‏

قلت‏:‏ بيع كل شيء في سوقه مستحب فلو باع في غيره بثمن مثله صح قاله أصحابنا وهذا المذكور من تقديم بيع المرهون والجاني وهو إذا لم يخف تلف ما يسرع فساده فإن خيف قدم بيعه عليهما والله أعلم‏.‏

ويجب أن يبيع بثمن المثل حالا من نقد البلد فإن كانت الديون من غير ذلك النقد ولم يرض المستحقون إلا بجنس حقهم صرفه إليه وإلا فيجوز صرفه إليهم إلا أن يكون سلماً‏.‏

نص عليه الشافعي رضي الله وقد سبق أقواله فيما إذا تنازع المتبايعان في البداءة بالتسليم فقال أبو إسحق نصه هنا تفريع على قولنا يبدأ بالمشتري ويجيء عند النزاع قول آخر أنهما يجبران معا ولا يجيء قولنا لا يجبر واحد منهما لأن الحال لا يحتمل التأخير ولا قولنا البداءة بالبائع لأن من تصرف لغيره لزمه الإحتياط وقال ابن القطان تجب البداءة هنا بتسليم الثمن بلا خلاف ثم لو خالف الواجب وسلم قبل قبض الثمن ضمن وسنذكر إن شاء الله تعالى كيفية الضمان‏.‏

فرع ما يقبضه الحاكم من أثمان أمواله على التدريج إن كان يسهل عليهم فالأولى أن لا يؤخر وإن كان يعسر لقلته وكثرة الديون فله التأخير لتجتمع فإن أبوا التأخير ففي النهاية إطلاق القول بأنه يجيبهم والظاهر خلافه وإذا تأخرت القسمة فإن وجد من يقرضه إياه فعل ويشترط فيه الأمانة واليسار وليودع عند من يرضاه الغرماء فإن اختلفوا أو عينوا غير عدل فالرأي للحاكم ولا يقنع بغير عدل ولو تلف شيء في يد العدل فهو من ضمان المفلس سواء كان في حياة المفلس أو بعد موته‏.‏

فرع لا يكلف الغرماء عند القسمة إقامة البينة على أنه لا ويكفي بأن الحجر قد استفاض فلو كان غريم لظهر وطلب حقه هكذا نقله الإمام عن صاحب التقريب ثم قال ولا فرق عندنا بين القسمة على الغرماء وبين القسمة على الورثة فإذا قلنا في الورثة لا بد من بينة بأن لا وارث غيرهم فكذا الغرماء ولفارق أن يفرق بأن الورثة على كل حال أضبط من الغرماء‏.‏

قلت‏:‏ الأصح قول صاحب التقريب وهو ظاهر كلام الجمهور ويفرق أيضاً بأن الغريم الموجود تيقناً استحقاقه لما يخصه وشككنا في مزاحم ثم لو قدر مزاحم لم يخرج هذا عن كونه يستحق هذا القدر في الذمة وليست مزاحمة الغريم متحتمة فإنه لو أبرأ أو أعرض سلمنا الجميع إلى الآخر والوارث يخالفه في جميع ذلك والله أعلم‏.‏

وإذا جرت القسمة ثم ظهر غريم فالصحيح أن القسمة لا تنقض ولكن يشاركهم بالحصة لأن المقصود يحصل بذلك وفي وجه ينقض فيستأنف فعلى الصحيح لو قسم ماله وهو خمسة عشر على غريمين لأحدهما عشرون وللآخر عشرة فأخذ الأول عشرة والآخر خمسة فظهر غريم له ثلاثين إسترد من كل واحد نصف ما أخذه ولو كان دينهما عشرة وعشرة فقسم المال نصفين ثم ظهر غريم بعشرة رجع على كل واحد بثلث ما أخذه فإن أتلف أحدهما ما أخذ وكان معسراً لا يحصل منه شيء فوجهان أصحهما يأخذ الغريم الثالث من الآخر نصف ما أخذه وكأنه كل مال ثم إذا أيسر المتلف أخذ منه ثلث ما أخذه وقسماه بينهما والثاني لا يأخذ منه إلا ثلث ما أخذه وله ثلث ما أخذ المتلف دين عليه ولو ظهر الغريم الثالث وظهر للمفلس مال عتيق أو حادث بعد الحجر صرف منه إلى من ظهر بقسط ما أخذه الأولان فإن فضل شيء قسم على الثلاثة وهذا كله في ظهور غريم بدين قديم فإن كان بحادث بعد الحجر فلا مشاركة في المال القديم وإن ظهر مال قديم وحدث مال باحتطاب وغيره فالقديم للقدماء خاصة والحادث للجميع‏.‏

فرع لو خرج شيء مما باعه المفلس قبل الحجر مستحقاً والثمن غير فهو كدين ظهر وحكمه ما سبق وإن باع الحاكم ماله فظهر مستحقا بعد قبض الثمن وتلفه رجع المشتري في مال المفلس ولا يطالب الحاكم به ولو نصب أمينا فباعه ففي كونه طريقا وجهان كما ذكرنا في العدل الذي نصبه القاضي ليبيع المرهون‏.‏

قلت‏:‏ أصحهما لا يكون قاله صاحب التهذيب والله أعلم‏.‏

وإذا رجع المشتري أو الأمين إذا جعلناه طريقا وغرم في مال المفلس قدما على الغرماء على المذهب لأنه من مصالح البيع كأجرة الكيال لئلا يرغب عن الشراء من ماله وفي قول يضاربان وقيل إن رجعا قبل القسمة قدما وإن كان بعد القسمة واستئناف حجر بسبب مال تجدد ضارباً‏.‏

 فصل فيما يباع من مال المفلس

فيه مسائل إحداها ينفق الحاكم على المفلس إلى فراغه من بيع ماله وقسمته وكذا ينفق على من عليه مؤنته من الزوجات والأقارب لأنه موسر ما لم يزل ملكه وكذلك يكسوهم بالمعروف هذا إذا لم يكن له كسب يصرف إلى هذه الجهات وأما قدر نفقة الزوجات فقال الإمام لا شك أن نفقته نفقة المعسرين وقال الروياني نفقة الموسرين وهذا قياس الباب إذ لو كان نفقة المعسر لما أنفق على القريب‏.‏

قلت‏:‏ يرجح قول إمام الحرمين بنص الشافعي رضي الله عنه إذ قال في المختصر أنفق عليه وعلى أهله كل يوم أقل ما يكفيهم من نفقة وكسوة والله أعلم‏.‏

الثانية‏:‏ يباع مسكنه وخادمه وإن كان محتاجاً إلى من يخدمه لزمانة أو كان منصبه يقتضي ذلك هذا هو المذهب والمنصوص وفي وجه يبقيان إذا كانا لائقين به بدون النفيسين وفي وجه يبقى الثالثة يترك له دست ثياب تليق به من قميص وسراويل ومنعل ومكعب وإن كان في الشتاء زاد جبة ويترك له عمامة وطيلسان وخف دراعة يلبسها فوق القميص إن كان يليق به لبسها وتوقف الإمام في الخف والطيلسان وقال تركهما لا يخرم المروءة وذكر أن الإعتبار بحاله في إفلاسه لا في بسطته وثروته لكن المفهوم من كلام الأصحاب أنهم لا يوافقونه ويمنعون قوله تركهما لا يحرم المروءة ولو كان يلبس قبل إفلاسه فوق ما يليق بمثله رددناه إلى ما يليق ولو كان يلبس دون اللائق تقتيرا لم يرد إليه ويترك لعياله من الثوب كما يترك له ولا يترك الفرش والبسط لكن يسامح باللبد والحصير القليل القيمة‏.‏

الرابعة‏:‏ يترك قوت يوم القسمة له ولمن عليه نفقته لأنه موسر في أوله ولا يزاد على نفقة ذلك اليوم وذكر الغزالي أنه يترك له سكنى ذلك اليوم أيضاً فاستمر على قياس النفقة لكنه لم يتعرض له غيره‏.‏

الخامسة‏:‏ كل ما قلنا يترك له إن لم نجده في ماله اشتري له‏.‏

قلت‏:‏ قال صاحب التهذيب يباع عليه مركوبه وإن كان ذا مروءة قال أصحابنا وإذا مات المفلس قدم كفنه وحنوطه ومؤنة غسله ودفنه على الديون وكذلك من مات من عبيده وأم ولده وزوجته إن أوجبنا عليه كفنها وكذلك أقاربه الذين تلزمه نفقتهم نص عليه في المختصر واتفقوا قال في البيان وتسلم إليه النفقة يوماً بيوم والله أعلم‏.‏